
تواجه المملكة العربية السعودية تحديات غير مسبوقة في مجال الموارد المائية، إذ تعتبر من أكثر دول العالم شحاً في المياه وتحتل مركزاً متقدماً عالمياً على مؤشر الندرة المائية. ومع سعي المملكة إلى تعزيز الاكتفاء الذاتي في قطاع الأغذية، يستهلك المجال الزراعي وحده حوالي 80 بالمائة من إجمالي المياه في البلاد، ما يستدعي موازنة دقيقة بين تحقيق الأمن الغذائي والحفاظ على الموارد الطبيعية المحدودة، خاصة في ظل توسع سكاني وحضري متسارع.
تبنت السعودية استراتيجية وطنية شاملة للمياه تهدف إلى تحقيق الأمن المائي وضمان استدامة الموارد، وتعتمد هذه الاستراتيجية على عدة محاور من بينها تحلية مياه البحر والتوسع في إعادة استخدام مياه الصرف الصحي وتشديد الرقابة على فاقد الشبكات وزيادة تغطية خدمات المياه للأسر. وتبرز أهمية التقنية والابتكار في تمكين هذه الحلول، خاصة بعد إطلاق الخطة التنفيذية للبحث والتطوير التي تركز على تسريع تبني التقنيات الحديثة في هذا القطاع الحيوي.
في السنوات الأخيرة، رصد انخفاض حاد في استخدام المياه الجوفية غير المتجددة، فقد تراجع معدل الاستهلاك من 19 مليار متر مكعب في عام 2015 إلى نحو 8.5 مليار متر مكعب سنوياً بحلول عام 2020، وذلك بفضل تشديد السياسات الحكومية خاصة في مجالي الزراعة والمياه وتطبيق أنظمة الري الحديث.
قطاع المياه في المملكة يشهد تطوراً ملحوظاً مع الاتساع السكاني والعمراني، إذ تبلغ القدرة الإنتاجية اليومية للمياه أكثر من 11.5 مليون متر مكعب، يجري ضخها عبر شبكة أنابيب تتجاوز أطوالها 127 ألف كيلومتر. إضافة إلى ذلك، تصل كمية مياه الصرف المعالجة سنوياً إلى نحو 2.1 مليار متر مكعب، بينما يستهلك القطاع الزراعي تقريباً 12 مليار متر مكعب، يليه القطاع السكاني بنحو 3.5 مليار، ثم القطاع الصناعي بحوالي 0.6 مليار، مدعوماً بأكثر من 60 محطة ضخ تعمل لتعزيز كفاءة التوزيع وضمان استمرار الخدمة في جميع المناطق.
التقنيات والابتكار باتا يشكلان الدعامة الأساسية لتحقيق تطلعات المملكة في إدارة المياه، فقد أطلقت مهام وطنية للبحث والتطوير بقيادة مجلس الوزراء وتضمنت مهمة رئيسية للابتكار تهدف إلى تخفيض تكلفة إنتاج المياه وترشيد استهلاك الجوفية. حددت وزارة البيئة والمياه والزراعة 45 تحدياً و100 تقنية ضمن 20 فئة تقنية، وجرى تصنيفها على موجتين: الأولى تضم التقنيات الأكثر إلحاحاً حتى عام 2025 مثل التناضح العكسي المتقدم وإدارة التسرب الذكية، تليها موجة ثانية حتى 2030 تشمل تطويرات حديثة في إعادة استخدام الصرف والري الذكي المنزلي والزراعي.
وضماناً لتطبيق هذه الحلول بكفاءة، نسقت الوزارة جهودها مع أكثر من 120 خبيراً وصانع قرار إلى جانب شراكات نشطة مع القطاع الخاص بهدف بناء منظومة وطنية متكاملة للبحث والتطوير، وتحفيز تبني تقنيات ري حديثة. تأتي هذه الخطوة ضمن رؤية شاملة لتحويل الابتكار لعنصر أساسي في استدامة الموارد.
تتوالى الإنجازات الوطنية في هذا المجال مثل استبدال المحطات التقليدية بنظم تحلية متطورة وتطوير تقنيات متقدمة لاستخلاص المعادن من مياه البحر، حيث أنشأت الهيئة السعودية للمياه محطة تجريبية لصفر رجيع ملحي تهدف لاستخلاص معادن كالبروم والمغنيسيوم، وابتكرت شركة نيوم للطاقة والمياه مشروعاً يعتمد تقنية تبلور الأغشية المسجلة ببراءة اختراع، ما أسهم في خفض استهلاك الطاقة الإنتاجية بما يفوق عشرة أضعاف.
ضمن توجهها لتطوير الحلول المبتكرة، بادرت المملكة بتأسيس المنظمة العالمية للمياه في عام 2023 لتكون منصة دولية لتبادل الخبرات وتعزيز التجارب التقنية والتعاون البحثي العالمي في قطاع المياه، ووقع ميثاق المنظمة في مايو 2025. إضافة إلى ذلك أسست مركزاً دولياً لأبحاث المياه بالتعاون مع جامعة الملك عبدالله للعلوم والتقنية، لدعم الأبحاث المتخصصة في المراحل الأولى وتطوير تقنيات متقدمة لمواجهة الندرة ورفع كفاءة استغلال الموارد، بهدف ضمان إمداد مستدام للمياه للأجيال الحالية والمقبلة.
يرتكز دور هذا المركز على تعزيز التنمية الوطنية ورفاهية المجتمع من خلال تحسين إدارة المياه والابتكار في معالجتها، مع استمرار السعودية في تحديث سياساتها وخططها لمواكبة أهداف رؤية المملكة 2030 والحفاظ على الأمن المائي ومواجهة تحديات التغير المناخي وندرة الموارد.